Friday, October 5, 2012

فنجان قهوة



لم أهوى القهوة يوما.. لكنها ظلت دوما تملأني بالحنين.. الحنين إلى أشياء متناثرة في غياهب الذكريات.. تذكرتها وأنا أصب لنفسي فنجانا من القهوة أفسدته قلة الخبرة بصنعها فبات بلا "وش" ككل الأيام التي بلا معنى.. لم أصنعها حبا فيها وإنما حنينا إلى ماضٍ تبعثه بداخلي رائحتها الثملى ولونها البني..
لم أرتشف منها سوى القليل ثم سكبت البقية في الحوض.. احترسي (هكذا قلت لنفسي) لم تحركيها جيدا في الفنجان، فتركزها في مكان واحد يعني "النكد".. حركت القليل الباقي منها قليلا بقدر ما سمح الفنجان.. ثم قلبتها.. لأتركها قليلا الآن حتى تُنهي دموعها وحدها..
يقولون أن الطالع المرسوم في فنجان القهوة لكي يكون طالعك لابد أن تشرب من الفنجان ولو قدرا ضئيلا جدا وألا يشاركك فيه أحد.. هذا فقط هو السبب الوحيد الذي كان يجعلني أشرب القهوة..
يقولون أن قراءة الطالع حرام.. وكذب المنجمون ولو صدفوا، أمي أيضا كانت تقول ذلك.. لكنها كانت تضيف أنها لطبيعة دراستها للفن تستطيع أن تقرأ الخطوط والرسومات التي يخطها البن على جدران الفنجان البيضاء، ولأنها تعرفنا جيدا تستطيع أن تخبرنا بما يمكن أن تعنيه هذه الخطوط في حياة كل منا..
ظل استطلاع المستقبل هما يلاحقني منذ الأزل.. كنت أحب أشياء معينه في الفنجان حين تقرأه لي أمي. كنت أحب أن أرى رسم الصليب الذي يعني "النصرة على مين يعاديكي" .. وتحذيرها لي من وجود من يريد بي الشر وأن علي أن أحذرهم.. لا أدري إن كان كثيرا أو قليلا مما كانت تقرأه لي حقيقيا أم كانت رسائل موجهة من أمٍ إلى صغيرتها.. لم تكن تقدم لي إجابات على أسئلة تحيرني بقدر ما كانت تسبر أغوار نفسي وتكشف ما أخفيه، لكنها كانت من الرقة بحيث تحتفظ لي بمساحة من الخصوصية أحببتها واحترمتها.. كنت كثيرا ما أكتب ما يعن لي في دفتر ذكرياتي ثم أتركه لها لتقرأه .. لم تكن تبدي رأيا فيه فقط تشاركني بقراءته فأغناني ذلك كثيرا عن نشره على الناس.
في مطار تركيا عرفت لأول مرة سحر رائحة القهوة الممتزجة بالحنين في انتظار موعد طائرتي  العائدة للوطن .. منذ ذلك الحين ارتبطت رائحة القهوة لدي بالحنين..
أداعب أذن الفنجان دون أن أرشفه.. أنتظره ليحدثني بذكريات الماضي ويبعث بهجتها في من جديد.. أتردد كثيرا أمامه.. أقلبه ولا افهم شيئا كالعادة.. يُضرب عن ان يفصح لي عما بداخله.. أمَل الانتظار بلا جدوى.. فأدير الصنبور لاغسل الفنجان واعود إلى حياتي العادية يملؤني الحنين إلى مستقبلي الممزوج برائحة القهوة في عيون أمي..